لا أحد يملك حسابًا حقيقيًا
كل ما تراه هنا… صورة مقصوصة، لحظة منتقاة بعناية، مشهد جرى ترتيبه بإتقان خلف الكواليس.
الخوارزمية لا تمنحك الحقيقة، بل تبيعك نسخة محسّنة من الحياة… نسخة تعلّم صاحبها كيف يُظهرها للعالم، لا كيف يعيشها لنفسه.
أرفقت لك صورة من رحلتي الأخيرة في مقاعد درجة رجال الأعمال. ولو أردتُ توظيف هذه الصورة بما تحبه الخوارزمية، وكما يفعل الكثير من المؤثرين، لملأت بها القصص والمنشورات، وكتبت معها: "رحلة عمل جديدة، مليئة بالـ بلا بلا بلا"، بينما الحقيقة أنها مجرد مقعد حصلت عليه بالصدفة، بسبب خطأ في النظام وامتلاء المقاعد العادية.
هل شاهدت أيضا مقاطع الأم المؤثرة التي تلاعب طفلها بابتسامة هادئة بينما البيت يلمع كأنك داخل إعلان منظفات؟
الوجوه المشرقة، الأجساد المتناسقة، الصباحات المليئة بالإنتاجية، القهوة التي تصعد منها أبخرة تتراقص على موسيقى “يا حلو صبح يا حلو طلّ”؟
كل هذا… ليس الحقيقة.
كل هذا… زائف.
ما وراء هذه الصور غرف مزدحمة بالتعب، قلوب مثقلة، وعقول منهكة من مطاردة شيء لا يمكن الإمساك به.
وأنت… كم مرة سألت نفسك:
هل أقول ما أريد؟
أم أقول ما يريدون؟
حين تميل الكفة نحو “ما ينجح ويحقق الانتشار” بدلًا من “ما يُشبهك ويحمل قيمة”… اعرف أنك على حافة الخطر.
الخطر الذي يأخذك بعيدًا عن ذاتك، عن رسالتك، حتى تستيقظ لتجد نفسك مرهقًا… غريبًا… وربما محطمًا.
الإحصائيات واستطلاعات الرأي قالت مؤخراً أن 90% من المؤثرين شعروا بهذا الإرهاق، وعاشوا هذه الغربة؟
وأن سبعة من كل عشرة فكروا جديًا في ترك المنصات بعدما اقتربوا من الانهيار؟
ليست أرقامًا عابرة… إنها جرس إنذار.
الحقيقة التي يجب أن تدركها: المنصات لا تكافئك لأنك مبدع… بل تكافئك لأنك مستمر، لأنك حاضر، لأنك تُلبي طلباتها يومًا بعد يوم.
الخوارزمية لا تهتم إن جئت بجديد…
هي تريد “محتوى”.
تريد جدولًا منتظمًا، وتريدك أن تكرر نفس الرقصة، وتشارك في نفس التحدي، وتنشر مقطعًا مع نفس الموسيقى الرائجة.
حينها تتحول، دون أن تشعر، إلى آلة تردد ما يُطلب منك…
ويبدأ الشغف بالتسرب من بين يديك، كما تتسرب الرمال من بين أصابعك.
أتعرف تلك اللقاءات التي يجتمع فيها المؤثرون؟
تبدو من الخارج كأنها حفلة دائمة: ضحك، مرح، ألوان، أغانٍ، رقصات، صداقات.
لكن اقترب قليلًا…
سترى جدرانًا مليئة بالجداول، قوائم الترند، أرقام المتابعة، خطط العمل، أفكار الفيديوهات القادمة…
لا وقت للهدوء، ولا مساحة للتأمل.
كل دقيقة محجوزة لفيديو جديد، إعلان جديد، قصة جديدة.
وكأنهم عمال في مصنع!
لكن بدل أن يصنعوا منتجًا، يصنعون وجودهم.
أغلبنا دخل هذا الطريق بدافع المتعة.
نشرنا لأنفسنا، لمجتمع صغير يحبنا، لمتعة المشاركة مع الأهل والأصدقاء.
لكن المنصات جاءت وقالت:
“أداء جميل… أعدها.”
“لقطة رائعة… كررها.”
“نجحت؟ اجعلها أسلوبك.”
هكذا، خطوة بعد خطوة، يتحول الشغف إلى عبودية…
والإلهام إلى واجب.
قال لي أحد المؤثرين ذات مرة:
“عندما بدأت، كان الأمر ممتعًا… ثم صار وظيفة.”
ما بدأ كهواية… صار التزامًا.
ما بدأ كمتعة… صار عملًا مرهقًا.
ورئيسك؟ الخوارزمية… التي لا تعرفها، ولا تفهمها، لكنها تتحكم بمصيرك.
وحين تُقرر أن تتوقف قليلًا… أن تجرب جديدًا… أن تهدأ…
تنهار أرقامك.
وتعاقبك الخوارزمية… ويُدير الجمهور ظهره… وربما تعاتبك نفسك.
الغريب أننا نحن — الجمهور — جزء من هذه اللعبة.
نقول: نريد الصدق، نريد العمق، نريد الإنسانية.
لكن ما يُبقينا أمام الشاشات… ليس العمق، بل السرعة.
ليس التأمل، بل الإثارة.
ليس الصدق، بل لقطة ساخرة أو ربما ساخنة.
أجمل ما في هذا الطريق… أوله.
حين تدخل المنصة وتحلم بالحرية، بالتعبير، بالوصول.
لكن بمرور الأيام، يُمسك الخيط من عنقك…
وما بدأ كتحرر… ينتهي عبودية.
عبودية لجمهور لا يشبع، لخوارزمية لا تنام، لنظام لا يرضى.
وهنا أسأل نفسي…
وسط كل هذا السعي لإرضاء الخوارزمية، لإخفاء العيوب، لصنع صورة محسّنة…
هل أملك الشجاعة أن أُظهر نفسي كما أنا؟
هل لدي القدرة أن أعترف بعيبي، بتقصيري، بضعفي… وأحاول أن أصلحها بدل أن أظهرها بصورة مثالية؟
ربما لا أملك الإجابة الكاملة… لكنني، على الأقل، لا أخاف أن أسأل.
التعليقات
لا يوجد أي تعليقات لعرضها.
تسجيل الدخولمقالات أخرى

لكي تُحلّق… عليك أن تقاوم!
هل سمعت يومًا قصة الرجل الذي وجد شرنقة فراشة، وجلس يراقبها وهي تحاول الخروج؟راقبها طويلًا، حتى تعب قلبه من رؤيتها تعاني، فأمسك بمقص صغير، وشق فتحة أكبر ليساعدها.خرجت الفراشة بسهولة… لكن جناحيها كانا ض
06/05/2025
البدء من ورقة وقلم
عندما تكون مبدعًا في مجالك، تتدفق الأفكار بسرعة كبيرة وكمٍّ هائل، مما يجعل عقولنا في حالة تشتت وعدم انتباه، وهذا يترك مساحة ضئيلة لالتقاط الأفكار الجديدة.في عالم صناعة المحتوى والمعرفة، يصبح هذا التحد
21/10/2024
الأعمال العظيمة ثمرة جهود صغيرة متراكمة
في العاشر من ديسمبر 1987 ولدت حركة حماس، وبعد ثمانية أيام ولدت أنا.ومنذ ذلك الحين، ظلت القضية الفلسطينية حاضرة في حياتي وذاكرتي، منذ بدأ الأطفال والشباب الفلسطينيون في مقاومة الاحتلال بالحجارة والمقال
07/10/2024